*مشكلة يونان النبي*
إن الله في سفر يونان النبى، يريد أن يعرفنا حقيقة هامة هي أن الأنبياء ليسوا من طبيعة أخرى غير طبيعتنا. بل هم أشخاص « تحت الآلام مثلنا » (يع ١٧:٥)، لهم ضعفاتهم، ولهم نقائصهم وعيوبهم، ومن الممكن أن يسقطوا كما نسقط. كل ما في الأمر أن نعمة الله عملت فيهم وأعطتهم قوة ليست هي قوتهم وانما هي قوة الروح القدس العامل في ضعفهم لكي يكون فضل القوة لله وليس لنا كما يقول الرسول (٢ کو ٤: ٧). وقد كان يونان النبى من ضعفاء العالم» الذين اختارهم الرب ليخزي بهم الأقوياء ( ١ كو ۱ : ۲۷)٠ كانت له عيوبه، وكانت له فضائله. وقد اختاره الرب على الرغم من عيوبه وعمل به وعمل فيه، وعمل معه وأقامه نبياً قديساً عظيماً لا نستحق التراب الذي يدوسه بقدميه. لكي يرينا بهذا أيضاً أنه يمكن أن يعمل معنا ويستخدم ضعفنا، كما عمل مع يونان من قبل ..
*سقطات في هروب يونان*
سنرى بعضاً من ضعف یونان في موقفه من دعوة الرب. يقول الكتاب: وَصَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إِلَى يُونَانَ بْنِ أَمِتَّايَ قَائِلاً: «قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَادِ عَلَيْهَا، لأَنَّهُ قَدْ صَعِدَ شَرُّهُمْ أَمَامِي». فَقَامَ يُونَانُ لِيَهْرُبَ إِلَى تَرْشِيشَ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ، فَنَزَلَ إِلَى يَافَا وَوَجَدَ سَفِينَةً ذَاهِبَةً إِلَى تَرْشِيشَ، فَدَفَعَ أُجْرَتَهَا وَنَزَلَ فِيهَا، لِيَذْهَبَ مَعَهُمْ إِلَى تَرْشِيشَ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ. (سفر يونان ١: ١ – ٣). وهنا نرى يونان النبى وقد سقط في عدة أخطاء. وكانت السقطة الأولى له هي المخالفة والعصيان. لم يستطع أن يطيع الرب في هذا الأمر، وهو النبي الذي ليس له عمل سوى أن يدعو الناس إلى طاعة الرب. عندما نقع في المخالفة، يجدر بنا أن نشفق على المخالفين واضعين أمامنا قول الرسول: اُذْكُرُوا الْمُقَيَّدِينَ كَأَنَّكُمْ مُقَيَّدُونَ مَعَهُمْ، وَالْمُذَلِّينَ كَأَنَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا فِي الْجَسَدِ. (الرسالة إلى العبرانيين ١٣: ٣) أن كان الله القدوس الذي بلا خطية وحده يشفق على الساقطين، فالأجدر بنا أن نشفق عليهم نحن الذين نسقط مثلهم. ومع ذلك فإن یونان سقط ولكنه مع ذلك لم يشفق …! على أن سقطة المخالفة التى وقع فيها يونان، كانت تخفي وراءها سقطة أخرى أصعب وأشد هي الكبرياء ممثلة فى الاعتزاز بكلمته وترفعه عن أن يقول كلمة وتسقط إلى الأرض ولا تنفذ … كان اعتزازه بكلمته هو السبب الذي دفعه إلى العصيان، وحقاً أن الخطية يمكن أن تقود إلى الخطية أخرى، فى سلسلة متلاحمة الحلقات. كان يونان يعلم أن الله رحيم ،ورؤوف، وأنه لابد سيعفو عن هذه المدينة إذا تابت. وهنا سبب المشكلة ! وماذا يضيرك يا يونان في أن يكون الله رحيماً ويعفو ؟. يضيرنى الشيء الكثير : سأقول للناس كلمة وكلمتى ستنزل إلى الأرض. سأنادي بهلاك المدينة بسبب خطاياها، ثم لا تهلك المدينة، وتسقط كلمتي، وتضيع کرامتي وهيبتي. هذا الرب لا أستطيع السير معه على طول الخط. لو كان يثبت علي تهدیده، كنت أثبت معه ! لكني سأنادي بهلاك المدينة، فنتوب المدينة، ويعود الرب فيشفق. ولا تهلك المدينة. وتسقط كلمتي. فالأفضل أني لا أذهب حرصاً على كرامتي الشخصية، وحرصاً على سمعتي، وعلى هيئة النبوة !! إلى هذا الحد كان يونان متمركزاً حول ذاته لم يستطع أن ينكر ذاته في سبيل خلاص الناس. كانت هيئته وكرامته وكلمته أهم عنده من خلاص مدينة بأكملها ..!
كان لا مانع عنده من أن يشتغل مع الرب، على شرط أن يحافظ له الرب على كرامته وعلى هيئة كلمته … من أجل هذا هرب من وجه الرب، ولم يقبل القيام بتلك المهمة التي تهز كبرياءه… وكان صريحاً مع الرب في كشف داخليته له إذ قال له فيما بعد عندما عاتبه « وَصَلَّى إِلَى الرَّبِّ وَقَالَ: «آهِ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ هذَا كَلاَمِي إِذْ كُنْتُ بَعْدُ فِي أَرْضِي؟ لِذلِكَ بَادَرْتُ إِلَى الْهَرَبِ إِلَى تَرْشِيشَ، لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ إِلهٌ رَؤُوفٌ وَرَحِيمٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَنَادِمٌ عَلَى الشَّرِّ. (سفر يونان ٤: ٢)». وكان هرب يونان من وجه الرب يحمل في ثناياه خطية أخرى هي الجهل وعدم الإيمان … هذا الذي يهرب من الرب إلى أين يهرب، والرب موجود فى كل مكان ؟! أيها النبي العظيم الا تؤمن أن الله موجود في كل مكان تهرب إليه ؟! إن الله موجود في السفينة التي ستركبها، وفى البحر الذي يحمل السفينة، وفي ترشيش التي تود أن تهرب إليها. فأين تريد أن تختفي من وجه الرب ؟! صدق داود النبي حينما قال للرب « أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ؟ وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي الْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ الصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي الْبَحْرِ، فَهُنَاكَ أَيْضًا تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ. سفر المزامير ١٣٩: ٧ – ١٠)». أما يونان فكان مثل جده آدم الذي ظن أن يختفي من وجه الرب وراء الشجر … أكان يونان يظن أن الله غير موجود في السفينة أو فى البحر، وأنه يمكنه أن يفلت من يده ؟! أليس في هذا منتهى الجهل وعدم الايمان بقدرة الله غير المحدودة ؟! أم تراه عملا طفولياً لجأ إليه إنسان حائر لا يعرف كيف يتصرف ؟! وما درى أن أمر الله سيلاحقه في كل موضع .. حقا أن الخطية تطفىء في الإنسان نور المعرفة، وتنسيه حتى البديهيات. وجد یونان في يافا سفينة ذاهبة إلى ترشيش، فدفع أجرتها، ونزل فيها … والعجيب أن الخطية كلفته مالاً وجهداً دفع أجرة للسفينة ليكمل خطيته أما النعمة فننالها مجاناً ۰۰۰ عجيب أن نتعب فيما يضرنا، ونبذل وننفق. لعلها كانت بركة ليونان لو أنه لم يكن يملك دراهم في ذلك الوقت تساعده على السفر والعصيان … عندما دفع يونان أجرة السفينة خسر خسارة مزدوجة خسر ماله، وخسر أيضاً طاعته ونقاوته… هذه فكرة عن أخطاء يونان في هروبه وعصيانه، فماذا كان موقف الله من ذلك ؟ العجيب أن الله أستخدم عصيان يونان للخير. حقاً إن الله يمكنه أن يستخدم كل شيء لمجد اسمه.
بقلم المتنيح قداسة البابا شنوده الثالث